يظهر شعورك بالخطر عادةً من عدم قدرتك على التنبؤ بالمستقبل، أي عدم التأكد من وقوع أو عدم وقوع الخسارة أياً كان نوعها. لكن ماذا لو استطعت التخلص من هذا الشعور لصالح طرف ما مقابل أن تدفع له مبلغاً زهيداً من المال؟ أليس ذلك رائعاً؟!
هذا بالضبط ما تفعله شركة التأمين في أيامنا، فهي ترفع عنك الشعور بالخطر وتبيعك عوضاً عنه "وعداً" بأن تتحمل عنك كامل الخسارة في حال وقوعها، وأن تعيدك إلى الحالة اللي كنت عليها قبل تحقق الخطر، وذلك خلال فترة متفق عليها تسمى "مدة التعاقد"، ومقابل مبلغ من المال يسمى "قسط التأمين".
يصعب حقيقةً تحديد زمن ظهور فكرة التأمين بشكل دقيق، وليس من الخطأ القول إنها قديمة قدم التاريخ. فمشورة سيدنا يوسف "عليه السلام" في إنشاء المخازن المشتركة لمواجهة مواسم الجفاف والمجاعة في أرض مصر ما هي إلا تجسيد لمفهوم التأمين.
كما ذكرت المصادر التي تحدثت عن مراحل لاحقة، أنه عندما كان يشح موسم الحصاد من وقت لآخر، أو عندما كان يتعذر جني المحاصيل الزراعية من الحقول المحيطة بالمدن بسبب أعمال الغزو، كانت تستوفى ضريبة بسيطة من القادرين على سدادها في وقت وفرة المحاصيل وانخفاض أسعارها، بحيث تستخدم حصيلة تلك الضريبة في شراء المحاصيل الزراعية القابلة للتخزين كالقمح مثلاً، أي أن الجهد الجماعي في توفير المواد الغذائية كان هو المعتمد.
أيضاً، أشير في مقدمة ابن خلدون إلى وجود عرف بين التجار العرب الذين كانوا يسافرون ضمن ما كان يعرف برحلتي الشتاء والصيف، ويقضي هذا العرف بأنه إذا تعرضت بضاعة أحد التجار المسافرين مع القافلة لضرر ما بسبب العواصف الرملية أو الرياح أو الأمطار أو السرقة، فإن التجار الآخرين يساهمون جميعاً في تعويض التاجر المتضرر كل حسب قدرته المالية وحجم تجارته. ورغم أن قدماء العرب لم يسموا ذلك تأميناُ إلا أنه مشابه إلى حد كبير لما يعرف اليوم بالتأمين التعاوني أو التكافلي.
أما التأمين بشكله الحالي والذي ظهر في القرن السابع عشر فإن أبسط شرح لمفهومه يمكن أن يكون:
"عقد حماية في مواجهة الخسارة المستقبلية".
والتأمين البحري الخاص، كما يدل الاسم، بالسفن، القوارب، والأهم من ذلك البضائع التي يتم تحميلها فيها، من أصعب فروع التأمين على الإطلاق لما يحويه عقد التأمين البحري من تفاصيل كثيرة ودقيقة للغاية، لكنه مهم جداً بالمقابل، فمن خلال التأمين البحري سيكون كل من مالك السفينة والناقل في مأمن من المطالبة بتعويض الأضرار خاصة فيما يتعلق بوسيلة النقل المستخدمة.
في وسائل النقل الأربع، الطرق البرية، السكك الحديدية، الجو، والبحر يعتبر هذا الأخير أكثر الوسائل إثارة للقلق ليس فقط بسبب الحوادث الطبيعية التي يمكن أن تلحق الضرر بالبضائع والسفن والبيئة ولكن أيضاَ بسبب الحوادث والكوارث الخاصة التي يمكن أن تسبب خسارة شديدة في الملاءة المالية للناقل أو شركات الشحن.
فحوادث مثل القرصنة أو أخطار مثل تبادل إطلاق النار، يمكن أن تشكل خطراً كبيراً عندما يتعلق الأمر بوسيلة النقل البحرية، ولذلك ومن أجل تجنب أي خسارة بسبب أخطار من هذا النوع فإن من مصلحة الناقل وشركات الشحن أن تأخذ احتياطاتها، كأن يكون لديها تأمين بحري.
جانب آخر مهم لوجود التأمين البحري هو أن الناقل يمكنه اختيار خطة أو برنامج التأمين تبعاً لحجم سفينته، الطرق التي تسلكها السفينة لنقل البضائع والعديد من هذه النقاط البسيطة التي يمكن أن يكون لها تأثير كبير على الناقل بشكل خاص.
أيضاً ولأن هناك برامج وبوالص مختلفة تغطي ليس فقط البضائع وإنما السفن يمكن للناقل أن يختار البوليصة الأفضل التي تناسب عمله أكثر وتحقق أفضل استفادة.
أثناء التعامل مع نطاق وفترة التأمين البحري من المهم جداً أن يتبع قبطان السفينة قواعد صارمة من حيث الطريق الذي يسلكه والوقت الذي يستغرقه لنقل البضائع والوصول بالسفينة إلى الميناء الوجهة. لأنه إذا كان هناك أي تباين أو مخالفة للطريق الذي تسلكه السفينة كأن يحيد القبطان عن المسار الأصلي للسفينة أو جزء منه، عندها إذا وقع أي حادث للسفينة أو البضائع سترفض شركة التأمين تماماً المطالبة بالتعويض من دون أي إمكانية لسدادها لاحقاً ولا حتى بعد عدة محاولات أو مفاوضات عسيرة.
لذلك يغدو من الواجب على القبطان أن يأخذ بعين الاعتبار الطرق المنصوص عليها لتجنب بطلان عقد التأمين بسبب خسارة غير متوقعة ناتجة عن الانحراف عن المسار.
وهذا من شأنه ليس فقط تحصيل الحذر من جانب القبطان ولكن من شأنه أيضا أن يقلل من احتمال فقدان مطالبات تأمين مهمة بسبب الغفلة والإهمال.
التأمين البحري هو الملاذ الآمن لشركات الشحن والناقلين لأنه يساعد على تخفيض الخسارة المالية بسبب فقدان البضائع الهامة، لكنه بالمقابل يتطلب التفاني والنزاهة من شركات التأمين تجاه شركات النقل والأطراف المعنية، وسيكون لنا وقفات عديدة في مقالاتنا القادمة للحديث عن تفاصيل هذا النوع من العمل وآلياته وفوائده ....
التعليقات: