مع أن معظمنا في المنطقة العربية لم يسمع من قبل عن المركب الأسطوري الشهير ماي فلاور إلا أنها بالنسبة للأمريكيين والإنكليز تحظى بالكثير من الاحترام والتقدير، وليس من المبالغة القول إنها كانت الشرارة الأولى لقيام ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ نقلت هذه السفينة في عام 1620 ما يزيد عن مئة من المسافرين أو ما يعرف اليوم بالمهاجرين الأوائل من ساوثامبتون في إنكلترا إلى مساتشوستس في الولايات المتحدة حالياً، وليصبحوا بذلك أول جالية دائمة في "إنكلترا الجديدة" (New England).
لم يكن المهاجرون في بادئ الأمر أكثر من أناسٍ اعتقدوا أن الحياة في الجزء الغربي من العالم هي انتقال إلى عالم جديد يمكن أن يوفر لهم الكثير من الفرص، فبدأ المئة والاثنان من الرجال والنساء والأطفال رحلتهم، واحتلت السفينة بذلك مكاناً لها على صفحات التاريخ.
كانت ماي فلاور واحدة من سفينتين تم اختيارهما لنقل المهاجرين من إنكلترا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولكن تبين أن السفر على متن المركب الثاني "سيبدويل" محفوف بالمخاطر، إذ اضطرت القافلة إلى العودة مرتين بعد أن ضبطت أشرعتها باتجاه أمريكا بسبب تسريب في سبيد ويل، وتمكنت ماي فلاور أخيراً من الإبحار في 6 أيلول/ سبتمبر 1620بعد أن قررت ترك سبيدويل خلفها.
تزن سفينة ماي فلاور في نظام أوزان السفن المعتمد في تلك الأيام 180 طناً تقريباً، ما كان يعني أن بإمكانها حمل 180 طناً، وقد كانت قبل استخدامها كمركب لنقل المسافرين عبارة عن مركب تجاري، إذ أبحرت في بدايات القرن السابع عشر بشكل منتظم في موانئ البلطيق حاملة النبيذ والملابس وكانت هذه البضائع تخزن في الطوابق السفلى من السفينة في فراغات كبيرة ومفتوحة، وخالية من النوافذ لكي لا تسمح بنفاذ الضوء أو مياه البحر، كما كان لها سقوف منخفضة جداً لتوفير أكبر عدد ممكن من السطوح لتستيف البضائع.
أي أنه كان على الركاب العيش في أمكان مظلمة تماماً وباردة وشديدة الرطوبة، ودون توفر أي شرط من شروط الخصوصية، بل حتى المؤن والأطعمة لم تكن مغذية ولم تأخذ بعين الاعتبار صحة المسافرين على الإطلاق.
كل هذا كان يعني أن May Flower لم تكن صالحة للحياة إذا ما قورنت بأيامنا ولكنها مع ذلك أبحرت بنجاح عبر مياه الأطلسي في أشهر الخريف وأوصلت المهاجرين إلى المكان المقصود دون أن يصاب أي منهم بأذى.
أما فيما يتعلق بالأبعاد، فقد بلغ طولها 27 متراً فقط وعرضها 7.6 متراً.
كان الإبحارفي المحيط مليئاً بالمخاطرفي القرن السابع عشر، إذ كان المحيط محكوماً من قبل القراصنة، كما تضررت العديد من السفن وغرقت في تلك الفترة بسبب عدم قدرتها على مواجهة ظروف الطقس القاسية، بالإضافة إلى سقوط العديد من الركاب في البحر أو الوفاة تحت تأثير المرض.
على الرغم من أن May Flower لم تغرق، ولم تقع في قبضة القراصنة لأنها أبحرت على الطريق الشمالي عبر الأطلسي لتفاديها، إلا أنها تضررت إثر مواجهتها لعواصف قوية في منتصف الطريق إلى أمريكا.
صدعت العاصفة إحدى العوارض الخشبية الرئيسية للسفينة وأزاحتها من مكانها، ولحسن الحظ وجد لدى أحد الركاب مسمار فولاذي ضخم مما ساعد على إعادة العارضة إلى وضعها الصحيح واستمرار السفينة في المسير.
في عاصفة أخرى سقط أحد الركاب في المحيط إلا أنه نجا لأنه تعلق بأحد حبال السفينة وتم سحبه ثانية إلى السطح.
وعلى الرغم من أن معظم الركاب أصيبوا بدوار البحر في الرحلة عبر مياه الأطلسي، إلا أن شخصاً واحدا فقط توفي أثناء الرحلة. وقد عنت وفاته الكثير بالنسبة للمسافرين إذ كان بحاراً متعجرفاً لم يكف عن السخرية من إصابتهم بدوار البحر، واعتقد المسافرون أن الله توفاه معاقبة له على قسوته.
بعد أكثر من شهرين (66 يوما) في عرض البحر، وصلت السفينة أخيراً إلى كيب كود Cape Cod في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1620، وبعد أسابيع قليلة أبحرت على طول الساحل إلى بيلموث Pilmoth حيث تعيش قبائل من الهنود الحمر.
عاش المهاجرون على متن السفينة لبضعة أشهر أخرى، يجدفون إلى اليابسة لبناء المنازل خلال النهار، ويعودون إلى السفينة في الليل، إلى أن أصاب المرض معظمهم. وتوفي نصف ركاب ماي فلاور في الشتاء الأول لهم بسبب ما وصفوه بأنه جائحة من نزلات البرد والسعال والحمى.
وأخيرا، في نهاية مارس 1621، كان هناك ما يكفي من المنازل التي تكفل العيش على اليابسة لكل من بقي على قيد الحياة، بعد فترة طويلة، رحلة صعبة، وشتاء أكثر صعوبة، لتغادر ماي فلاور بليموث عائدة إلى انكلترا يوم 5 أبريل 1621وتصل وجهتها في السادس من الشهر الذي يليه.
بسبب التاريخ الغني الذي منحته سفينة ماي فلاور لإنكلترا والولايات المتحدة، قام مهندس بناء السفن الأمريكي وليام إي باكر William A. Baker عام 1957 ببناء نسخة مطابقة لسفينة ماي فلاور إحياءً لذكراها وسميت هذه النسخة بـ May Flower 2. قامت ماي فلاور 2 برحلة مشابهة للرحلة التي قامت بها ماي فلاور الأصلية ووصلت إلى المكان المقصود خلال 53 يوماً، لترسو بعدها في بيلموث للعرض فقط.
لا شك أن السفر على متن السفينة بالنسبة لمسافري اليوم يعني السفر بحراً عبر أماكن مهمة بمحاذاة المياه، لكن بالنسبة للمهاجرين في تلك الحقبة من الزمن، فإن الذهاب برحلة بحرية كان يعني السفر إلى المجهول وخوض تجربة لا تشبه السفر بأي وسيلة نقل أخرى. لذلك يجب ألا نغفل أهمية رحلة سفينة ماي فلاور لكي يفهم العالم ماذا كان يعني السفر عبر المياه الأطلسية بالنسبة للناس في ذلك الزمن وما آلت إليه الأمور فيما بعد.
من ناحية أخرى لا بد أن نذكر أن رحلة ماي فلاور كانت نقطة البداية لأسوأ مجازر إبادة جماعية عرفتها البشرية حيث تمت إبادة الهنود الحمر بشكل تام وإحلال الشعوب الإنجلوسكسونية مكانها.
التعليقات: