ما من أحد يستطيع إنكار الأثر الذي تركته حادثة التيتانيك في التاريخ، الصدمة التي سببتها، الحقائق والفضائح التي رافقت خبر الغرق لفترة طويلة، والتحرك الدولي السريع لتبني اتفاقيات دولية تقي العالم حوادث مشابهة، بل إن غرق التيتانيك سرع تدويل العمل البحري إلى حد كبير كرد فعل إجرائي على الكارثة. والجدير بالذكر أن البحث والتحقيقات مازالت جارية إلى يومنا هذا لاستنباط حقائق جديدة حول تفاصيل الحادث وما حصل بالضبط في تلك الليلة المقمرة من ليالي نيسان عام 1912 ...
في سلسة MRS Titanic نروي لكم القصة الكاملة للمارد الشهير الذي ما برح يضيف مفاهيم ومعايير جديدة لبناء السفن والعمل البحري منذ اللحظة التي وضع فيها التصميم وحتى الساعة...
وصفت الكثير من الصحف العالمية في أيامها سفينة التيتانيك بصفات مبهرة، كالأسطورة، عروس البحار، وعابرة المحيطات والسفينة التي لا تغرق وكانت توحي بذلك فعلاً عند رؤيتها... حتى إنها اسمها الذي يعني المارد لم يكن اسماً مبالغاً فيه، لما تمتعت به من ضخامة وفخامة وقوة.
كانت سفينة التيتانيك أضخم سفينة ركاب شهدها العالم في ذلك الوقت وغير قابلة للغرق كغيرها في نظر من صمموها، إذ انفردت باحتوائها على قاعين يمتد أحدهما عبر الآخر كما تكون الجزء السفلي من السفينة من 16 قطاعاً لا يمكن أن ينفذ منها الماء، وحتى لو غمرت المياه على سبيل الافتراض أحد القطاعات فإنه يمكن لقائد السفينة وبمنتهى السهولة أن يحجز المياه داخل هذا القطاع بمفرده ويمنعها من غمر باقي القطاعات.، أما من الداخل فقد تمتعت التيتانيك بدرجة عالية من الفخامة لم تتوفر من قبل لأي سفينة ركاب، ويمكنك تصور مدى هذه الفخامة والروعة إذا عرفت أن ثمن تذكرة الدرجة الأولى لهذه السفينة كان يزيد عن دخل أي فرد من أفراد طاقمها طوال حياته.
تم بناء التيتانيك لصالح شركة وايت ستار في حوض هارلاند آند وولف لبناء السفن في بلفاست بإيرلندا الشمالية (التي كانت تابعة لبريطانيا العظمى حينها)، وصممت أصلاً لمنافسة السفينتين لوستينيا وماوريتانيا المبنيتين لصالح شركة كونارد لاين.
كان من المزعم أن تكون التيتانيك إلى جانب شقيقتيها الضخمتين أوليمبيك وبيريتانيك أكبر السفن وأكثرها رفاهية في العالم في ذلك الوقت (كان سيطلق عليها اسم جيجانتيك في البداية). وقد تم تصميم السفن الثلاث من قبل ويليام بيري، المدير التنفيذي لكل من هارلاند أند وولف ووايت ستار، والمعماري البحري توماس أندروس مدير إنشاءات ورئيس قسم التصميم في هارلاند آند وولف، وألكساندر كالايل، المخطط الأول للحوض والمدير العام له. كالايل هذا كان المسؤول عن البنية الإنشائية للقسم العلوي من السفن الثلاث لكنه ترك المشروع عام 1910 قبل إطلاق السفن.
بدأ بناء تيتانيك في 31 آذار/ مارس 1909 بتمويل من الأمريكي جون بيربونت مورجان وشركته الخاصة، وأطلق هيكل السفينة في 31 أيار/ مايو 1911 ثم أتم بناء التجهيزات بحلول 31 مارس/ آذار من السنة التالية.
بلغ الطول الكلي لتيتانيك حوالي 270 متراً وعرضها 28 متراً وارتفاعها 32 متراً (من القرينة إلى أعلى قمرة القيادة)، بحمولة 46362 طناً مسجلاً وإزاحة 52310 طناً.
زودت السفينة بمحركين بخاريين من أربع أسطوانات بالإضافة إلى عنفة بخارية منخفضة الضغط تعمل مع المحركين على تدوير المراوح الدافعة للسفينة، كما احتوت على 29 مرجلاً يتم تشغيلها باستخدام 159 فرناً لحرق الفحم، هذه المراجل كانت قادرة على دفع السفينة بسرعة قصوى تبلغ 23 عقدة.
ثلاث مداخن فقط من المداخن الأربع البالغ ارتفاع كل منها 19 متراً كانت تعمل، أما الرابعة والتي استخدمت لاحقاً في التهوية فقد وضعت في الأصل لتجعل من شكل السفينة مثيراً للإعجاب فقط لا غير.
تفوقت تيتانيك على منافساتها من حيث الفخامة والترف ووصلت إلى حد المبالغة في بعض المواضع، إذ احتوت الدرجة الأولى على حوض سباحة وصالة رياضية وملعبي سكواش وحمام تركي وحمام كهربائي.
بالإضافة إلى ذلك وفر مقهى باريسي لركاب الدرجة الأولى ركن مشروبات مميزاً على شرفة مشمسة مزينة بالأزهار.
وكانت غرف الدرجة الأولى والثانية مزينة بزخارف الخشب والأثاث الباهظ الثمن، كما كان هناك مكتبات ومحال للحلاقة لركاب الدرجتين الأولى والثانية، أما غرف الدرجة الثالثة فقد كانت مزينة بخشب الصنوبر واحتوت على أثاث مميز. وعلى الرغم من أن الدرجتين الثانية الثالثة كانتا أقل فخامة إلا أنهما كانتا من أفضل وأرقى قاعات السفر قياساً بمثيلاتها في السفن الأخرى في ذلك الوقت.
زودت السفينة بأحدث التقنيات الكهربائية المتوفرة في ذلك الوقت، ثلاثة مصاعد في الدرجة الأولى وواحد في الدرجة الثانية، نظام كهربائي شامل مع مولدات كهرباء بخارية ومصابيح كهربائية في أرجاء السفينة وجهازين لاسلكيين قدرة كل منهما 1500 واط يتناوب على تشغيلهما شخصان مما يضمن اتصالاً ثابتاً وإيصال الرسائل الصوتية للركاب في أي وقت.
لا بد من الحديث عن قوارب النجاة بشيء من التفصيل لما أثارته من خلافات في التحقيقات حول عدم إيلائها الأهمية وتعمد إنقاص عددها، كما سنورد في الأجزاء المقبلة.
حملت تيتانيك في أول وآخر رحلة لها 20 قارباً للنجاة من عدة أنواع:
- القاربان 1و2: قاربا طوارئ خشبيان يبلغ طول الواحد 7.7 متراً وعرضه 2.2 متراً بعمق متر واحد، يتسع كل منهما لـ 40 شخصاً.
- القوارب 3 إلى 16: قوارب خشبية، يبلغ طول الواحد 9.1 متراً وعرضه 2.7 متر ويتسع لـ 65 شخصاً.
- القوارب A، B، C، D: قوارب مطاطية يبلغ طول الواحد 8.4 متراً وعرضه 2.4 متر وبعمق 0.9 متراً ويتسع لـ 47 شخصاً.
كانت قوارب النجاة الخشبية محكمة الربط في الغالب على سطح السفينة ولم تكن مثبتة على الروافع.
تم تحميل جميع القوارب بالإضافة إلى القوارب المطاطية باستخدام رافعة ضخمة كانت موجودة في بلفاست.
حملت القوارب التي كانت موجودة على ميمنة السفينة الأرقام 1، 3، 5، 7، 9، 11، 13، 16، بدءاً من مقدمة السفينة أما القوارب على الميسرة فحملت الأرقاام 2، 4، 6، 8، 10، 12، 14، 16 من المقدمة إلى المؤخرة.
كان القاربان 1 و2 معلقين بحيث يكونان جاهزين للاستعمال عند الحاجة، بينما كان القاربان المطاطيان C وD مثبتين على كل من سطح السفينة والقاربين 1 و2.
القاربان A وB كانا مخزنين على سقف غرفة الربان على جانبي القارب 1.ولم يكن هنالك أي ذراع مثبت على غرفة الربان لإنزالهما على الرغم من وزنهما الثقيل، فواجه المنقذون صعوبة في إنزال القاربين أثناء الغرق، إذ لم يكن هناك من طريقة لإنزالهما إلا زلقهما على ألواح من الخشب أو المجاذيف نفسها حتى يتسنى استخدامهما، وخلال هذه العملية انقلب القارب B رأساً على عقب وطفا مبتعداً عن السفينة.
يذكر أن تعليمات مجلس التجارة البريطاني كانت تنص على أن تحمل السفن البريطانية التي تزن أكثر من 10,000 طناً 16 قارباً للنجاة بسعة 160 متراً مكعباً، وأن يكون هنالك عوامات وطوافات تكفي لـ 75% من الأشخاص على متن هذه القوارب، أي أن الشركة الصانعة فعلياً كانت قد زودت السفينة بأكثر مما نص عليه القانون.
ترقب العالم بلهفة شديدة الحدث التاريخي لإبحار تيتانيك عبر المحيط الأطلسي من إنكلترا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في 10 نيسان/ إبريل 1912.
اصطف الآلاف على رصيف ميناء كوين ستون في اليوم المحدد متأملين السفينة الراسية بقوة وشموخ دون أدنى شك أن الكثير منهم كان يتمنى لو كان له مكان على ظهرها. رفعت الأعلام وبدأت الفرق الموسيقية المحتشدة على الرصيف تعزف موسيقاها الجميلة المرحة وسط هتاف المودعين والمسافرين وبدأ صوت المحرك يعلو إلى أن أخذت تيتانك تتحرك معلنة بدء رحلتها الأولى والأخيرة، ولم يتكهن أحد من المسافرين بشيء مما كان ينتظره في أغوار الأطلسي.
تفاصيل الرحلة في الجزء الثاني ...
التعليقات: